صناعة الأحذية في فلسطين.. مهنة وهوية على عتبة الاندثار

2025-09-11
الرابعة نيوز_في أزقة الخليل، ما تزال رائحة الجلد الطبيعي تعبق في الزوايا القديمة، شاهدة على صناعةٍ كانت يوما ما من أعمدة الاقتصاد الوطني الفلسطيني، وحاضنةً لإرث مهنيٍّ متجذر.

صناعة الأحذية لم تكن مهنةً عادية، بل هويةٌ اجتماعية وثقافية واقتصادية، شكّلت مصدر رزق لآلاف العائلات، ومنتَجا وطنيا يفاخر بجودته وتنوعه، ونافَس بقوة الأحذية المستوردة في الأسواق المحلية.


صناعة الأحذية اليدوية في الخليل
غياب الحماية تركت المحلي وحيداً

لكنّ ملامح هذه الصناعة بدأت تتآكل تدريجيا، بفعل الاستيراد العشوائي، وضعف السياسات الحكومية الداعمة للصناعة المحلية. ومع غياب أدوات الحماية الاقتصادية، تراجع هذا القطاع بشكل خطير، وأُغلقت عشرات الورش والمصانع الصغيرة، فيما فقد آلاف الحرفيين والعمال مصدر رزقهم، وانكمش الحضور الفلسطيني في السوق المحلي لصالح المنتجات الأجنبية.

لا زلت أستحضر، ويستحضر معي أهالي الخليل، مشهد منطقة الزاهد وسط المدينة، حين كانت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي نابضة بالحياة، تعجّ بأصوات ماكينات الخياطة، وطرق الشواكيش على الجلود وهي تكسو القوالب، فيما رائحة المواد الخام تعبق في الأجواء.


منطقة الزاهد في مدينة الخليل
منطقة الزاهد في مدينة الخليل
كانت مشاغل الأحذية تملأ الأزقة، وتشكل القلب النابض للصناعة التقليدية في المدينة، حيث كان الحذاء يُصنع بحرفية يدوية عالية ويُصدّر إلى الأسواق المحلية والمجاورة.

أما اليوم، فالوضع مختلف تماما، صمتٌ ثقيلٌ حلّ مكان أصوات الماكينات، وأبواب كثيرة أُغلقت، بعد أن ضرب الاستيراد العشوائي هذا القطاع في عمقه. آلاف الحرفيين هجروه مضطرين، وبعضهم لا يزال يحنّ لسنوات الإتقان والكرامة.

يقول محمود الزغير، والذي تجاوز العقد الرابع من عمره، ويمتلك مشغل للأحذية في الخليل: "منذ طفولتي، كنت مولعا بصناعة الأحذية، نشأت في مشغل والدي وعمي، تعلمت أصول الحرفة على يديهما. ومع مرور الوقت، سعيت لتطوير مهاراتي، فالتحقت بدورة متخصصة في تصميم الأحذية، نظمها اتحاد صناعة الاحذية والجلود بالتعاون مع مؤسسة دولية. في تلك الدورة، تعلمت أسس الرسم والتصميم، وبدأت بإنتاج تصاميم عصرية تلبي أذواق واحتياجات المستهلكين".


محمود الزغير صاحب مشغل أحذية

وأردف في حديثه :"تخصصت في صناعة الأحذية الرجالية، لكن للأسف لم أتمكن من مجاراة المنتجات المستوردة زهيدة الثمن. ورغم غياب المنافسة العادلة، قررت الاستمرار في العمل، وإن كان ذلك بوتيرة أقل، واقتصرت على الإنتاج حسب الطلب".

الباب المفتوح يفقد أكثر من 60% من المهنيين وظائفهم

وفقاً لاتحاد الصناعات الجلدية، فإن صناعة الأحذية، تتركز بنسبة 95% في مدينة الخليل وهناك تراجع كبير بسبب المنافسة الاجنبية الغير عادلة، وضعف البنية التحتية، وارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج والطاقة، والاضطرابات السياسية. وقد انخفض عدد الورش من 1400 ورشة كانت تشغل 30,000 عامل حتى العام 2000، ثم انخفض العدد لنحو 230 ورشة تشغل أقل من 2500 عامل. ويواجه القطاع تحديات كبيرة مثل نقص التكنولوجيا الحديثة، وعدم القدرة على التوسع، و ضعف التصميم، وعدم الاستقرار الاقتصادي.


شركة مصنع توستي للاحذية في الخليل من أقدم مصانع الأحذية
وفي مواجهة هذا التدهور، تحرّك اتحاد الصناعات الجلدية، لإنقاذ ما تبقى من المهنة، فأطلق سلسلة من الدورات التدريبية المتخصصة، لاستعادة المهارات الحرفية، وربط الجيل الجديد بالإرث الصناعي، بالتعاون مع مؤسسات محلية ودولية.

كما يعمل الاتحاد حاليا على إنشاء منطقة حرفية متخصصة شرق مدينة الخليل، تهدف لتجميع الورش والمصانع في بيئة إنتاج متكاملة، تُسهم في خفض التكاليف وتحسين الجودة.

حلم القرية الحرفية هل سيتحقق..!

عامر عرفة، رئيس اتحاد الصناعات الجلدية، قال في حديثه مع مراسلنا: "نحن أمام مفترق طرق، إما أن يتم إنقاذ هذه الصناعة من خلال إجراءات رسمية واضحة ودعم مباشر، أو أن نكون شهودًا على اندثار حرفةٍ عمرها مئات السنين".

وأضاف: لقد فقدنا أكثر من 60% من العاملين في هذا القطاع بسبب سياسة الباب المفتوح للاستيراد، وغياب الرقابة على جودة البضائع المستوردة."


عامر عرفة رئس اتحاد الصناعات الجلدية، ومراسل معا في الخليل محمد العويوي في منطقة الزاهد
وعمل اتحاد الصناعات الجلدية، على استصدار قرار من الرئيس، يلزم هيئة الامداد العسكري، بشراء الحذاء العسكري من مشاغل ومصانع الاحذية الفلسطينية، وفق المواصفة الفلسطينية، وذلك بهدف تعزيز المنتج وتوطين هذا النوع من الصناعات. ورغم هذا الجهد الوطني، الذي فتح آفاقا وآمالا كبيرة لصانعي الأحذية، إلا أن تأخر الجهات المعنية في صرف المستحقات المالية للمصانع، حال دون استمرار بعضهم في التقدم للعطاءات، نتيجة عدم قدرتهم على توفير المواد الخام أو الوفاء بالتزاماتهم تجاه العمال. هذا الواقع أدى إلى فقدان المزيد من الأيدي العاملة، وأثر سلبا على استمرارية الإنتاج في قطاع يعاني أساسًا من ضغوط كبيرة.

وتابع عرفة: "نسعى في الاتحاد لإنشاء منطقة صناعية متخصصة، لأننا نؤمن أن هذه الصناعة ما زال بإمكانها أن تنهض، إذا توفرت الإرادة السياسية والدعم الفني والمالي. نحن لا نطلب معجزات، بل نطلب عدالة في التعامل مع المنتج المحلي."

وأوضح، أن إنشاء "قرية حرفية للصناعات الجلدية المستدامة" في الخليل جاء لتعزيز التنافسية، وخلق فرص عمل، وتطوير سلسلة القيمة من خلال دمج حلول الطاقة النظيفة والبنية التحتية المستدامة.

وأشار الى ان القرية الحرفية، ستكون بإشراف وزارة الصناعة، وشراكة ما بين غرفة تجارة وصناعة محافظة الخليل واتحاد الصناعات الجلدية.


تعليمات ملزمة وغياب الرقابة

في شهر تموز من العام 2019، أعلنت مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية، عن اعتماد التعليمات الفنية الإلزامية الخاصة بالأحذية والتي تحمل الرقم "78-2019"، وتختص باشتراطات السلامة والجودة الواجب توافرها في الاحذية.

وتحدد التعليمات مسؤولية مصنعي ومستوردي الاحذية، ومسؤولية كل الجهات المختصة بالتفتيش على المنتجات في الاسواق، والتأكد من التزام المصنعين والموردين والتجار بهذه التعليمات، كمتطلبات واشتراطات بيان الاحذية ومتانتها ومتطلباتها الفيزيائية والكيميائية.

وتوضح هذه التعليمات ضرورة التأكد من صحة ودقة بطاقة البيان ووضوحها للمستهلك حتى يتمكن من اختيار المنتج المناسب له دون ان يتعرض للتضليل، الامر الذي يتوجب على الجهات الرقابية التأكد من مطابقة المنتوجات للاشتراطات الواردة في التعليمات الفنية.

وعملت مؤسسة المواصفات والمقاييس وبالتعاون مع مركز تطوير منتجات الاحذية والجلود في الخليل، على تأهيل مختبر لفحص الأحذية المصنعة محلياً والمستوردة من الخارج، للنهوض بصناعة الأحذية وتوفير المناخ المناسب للنمو والتطور وتحقيق متطلبات الاسواق العربية والاقليمية، ولكي تحظى بثقة المستهلك الفلسطيني.

وقد تم إنشاء مختبر متخصص في الخليل، بشراكة بين جامعة بوليتكنك فلسطين، اتحاد الصناعات الجلدية، غرفة تجارة وصناعة محافظة الخليل، ووزارة الاقتصاد، ممثلة بهيئة المواصفات والمقاييس، بهدف فحص الأحذية وضمان مطابقتها للمواصفات.


حذاء صيفي من انتاج مصنع للاحذية في مدينة الخليل
المختبر لم يفحص أي عينة منذ العام 2021

لكن المفاجأة، كما يقول عامر عرفة رئيس اتحاد الصناعات الجلدية: "منذ إصدار التعليمات الالزامية قبل 6 سنوات وحتى اليوم، لم يتم فحص أي حذاء مستورد في هذا المختبر، وفي المقابل تقوم مشاغلنا ومصانعنا بفحص أحذيتها لديه".

هذا الغياب في التطبيق على الحذاء المستورد، يسمح بدخول أحذية بمواصفات متدنية، تُضر بالمستهلك، وتُضعف المنافسة العادلة.

القطاع الصناعي بحاجة إلى تنفيذ فعلي للقوانين، لا الاكتفاء بتشريعها. فغياب الرقابة يساهم في المزيد من التدهور لمهنة كانت في يوم من الأيام مصدر فخر وطني.

و في نهاية حديثه قال رئيس اتحاد صناعة الاحذية والجلود، عامر عرفة: "إذا لم تتحرك الحكومة الآن، فقد لا تجد شيئًا تتحرك من أجله بعد سنوات قليلة. صناعة الأحذية ليست مجرد عمل، بل هوية وطنية لا يجوز التفريط بها."

وأوضح بأن اتحاد الصناعات الجلدية وكافة العاملين في القطاع يعولون كثيرا على قرارات الفريق الوطني لمحاربة إغراق السوق المحلية بالمنتجات متدنية القيمة والمواصفات.

إذا صناعة الأحذية في فلسطين، لا تزال تقاوم، لكنها تحتاج شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، حتى لا تُطوى صفحتها إلى الأبد.




وقت آخر تعديل: 2025-09-11 14:54:48